قول سيدنا رضي الله عنه "إذا سمعتم عني شيئا فزنوه بميزان الشرع فما وافق فخذوه و ما خالف فاتركوه"
هذه المقالة من سيدنا رضي الله عنه نصبها ميزانا مستقيما بين أعين مريديه وأصحابه، لوزن ما ينسب إليه من قول أو فعل أو حال أو اعتقاد، و كل شيء من الأشياء، منبها لهم به على أنه لا يؤخذ منه إلا ما كان موافقا للشرع، و أما ما خالف الشرع فلا يؤخذ منه بل يترك و يطرح، لأنه لا يأمر إلا بما يوافق الشرع من ذلك. وقد جرى في هذه المقالة مجرى النصح التام، للخاص و العام، في كون الشيخ لا يتبع إلا فيما جاءت الشريعة به، و أما ما يخالفها فلا يقتدى به فيه، وذلك أن كل شيخ زالت الشريعة عنه في سائر أحواله أو في بعضها فإن الإقتداء به مضر، و لو كان لخوارق العادة بكل كرامة يظهر، كما قال الإمام ابن العربي الحاتمي قدس سره:
لا تغترر بالذي زالت شريعته ……عنه و لو جاء بالأنبا عن الله(1)
و ذلك بأن يكون جاهلا من أول الأمر، أو مجذوبا مطبقا عليه، لا يفرق بين نهي أو أمر، أما الأول فيلغى رأسا كما يقول الشريشي رحمه الله في رائيته في صفة الشيخ:
إذا لم يكن علم لديه بظاهر ………و لا باطن فاضرب به لجج البحر(2)
و أما الثاني فسلم له حاله. و لا يقتدى به في شيء من أحواله. و أما إذا كان سالكا في حال مجذوبا في حال، فهو صاحب حال يقتدى به فيما يوافق الشرع، و لا يقتدى به فيما خالفه، ويسلم له حاله، و لا يعترض عليه بعنف، و إنما ينبه عليه خشية أن يقتدي به فيه الغافل عن حكم ما صدر منه، مع ملازمة الأدب معه بأتم وصف، و أما السالك العالم العامل إذا صدر منه ما يخالف الشرع فلا يقتدى به في ذلك، غير أنه لما كان المريد المستغرق في محبة شيخه قد يحمله صدق حبه على أن يقتحم الإقتداء به في تلك المخالفة، و يظن أنه مأمور بذلك لهذا السبب، أشفق كل شيخ كامل على مريديه بالتنبيه لهم على أن مخالفة الشرع لا يقتدى بهم فيها، و ليس كل ما يصدر منهم يعد موافقا للشرع، و قد كان الإمام مالك و ربيعة(3) يقولان: لسنا من أهل العصمة في كل ما نقول، بل كذلك في كل ما يفعلان.
و كان الإمام مالك أيضا يقول: كل كلام فيه مقبول و مردود إلا كلام صاحب هذا القبر. ويشير لقبر الرسول صلى الله عليه و سلم، و كان الإمام الشافعي يقول: إذا سمعتم مني قولا يخالف قول الرسول صلى الله عليه و سلم فاعملوا بكلام رسول الله و اضربوا بكلامي هذا الحائط، و هذه المقالة شبيهة بمقالة سيدنا رضي الله عنه، ولكن مقالة الشيخ أعم، لشمولها لكل شيء يخالف الشريعة، قرآنا و سنة و تقريرا، أو إجماعا أو قياسا.
و قد كان الإمام أحمد يقول: لا كلام لأحد مع كتاب الله تعالى و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم رضي الله عنهم يتبرؤون مما يصدر منهم أو ينسب إليهم من الأشياء التي تخالف الشرع، و كذلك غيرهم من كمل العارفين يتبرؤون من ذلك، و الغالب ما ينسب لهم من ذلك يكون مدسوسا عليهم و مكذوبا عليهم فيه، و لذلك لما قيل لسيدنا رضي الله عنه أيكذب عليك؟ قال نعم، و هو سبب قوله: إذا سمعتم عني شيئا فزنوه. إلخ ... فكأنه يقول رضي الله عنه: ما كان موافقا للشرع فنسبته إليَّ صحيحة. فخذوه و لا تهملوه. و ما كان مخالفا فهو مكذوب عليَّ فاتركوه. و لا تعرجوا عليه بحال، ولو كان في نفس الأمر صادرا عني لأني لا أوافق إلا على ما كان موافقا للشرع غير مخالف له.
و لكن الغالب فيما خالف الشرع أن يكون مكذوبا عليه فيه. فهو متبرئ منه. غير أنه لا سبيل للقطع بكذب ما ينسب له من ذلك. لأنه لم يقل أجزموا بكذبه. و إنما قال فاتركوه. و الأمر بتركه لا يقضي بالقطع بأنه مكذوب عليه. إلا ما كان من الباطل الذي لا يصدر عن عاقل. فالجزم بكونه مكذوبا عليه هو المتعين على كل متدين يقدر قدر أهل الله الكمل. خصوصا من كان منهم معلوم الفضل، زكي النفس، سامي القول و الفعل، و بالأخص خاتمهم الأكبر سيدنا القطب التجاني رضي الله عنه. فإن لكلامه صولة و مذاقاً يتحقق به صاحب الذوق السليم ما يؤيد به قوله. و أما ما ينسب له من القول و لم يكن من فعاله فيكاد أن يجزم بكونه ليس من كلامه من يعرف جلالته بما ينطق به لسان حاله.